فصل: تفسير الآية رقم (188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (188):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} والمراد من الأكل ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم الحوائج وبه يحصل إتلاف المال غالبًا والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد {ولا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في ركبوا دوابهم حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: {بَيْنِكُمْ} فإنه عنى الواسطة يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسمًا إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطًا بينهما وذلك ظاهر على المعنى المذكور والظرف متعلق بـ {تَأْكُلُواْ} كالجار والمجرور بعده، أو حذوف حال من الأموال والباء للسببية والمراد من الباطل الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
{وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} عطف على {تَأْكُلُواْ} فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيًا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء والباء صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور للأموال أي لا تتوصلوا، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى الحكام وقيل: لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبيّ {وَلاَ}.
{الحكام لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم والرفع إليهم {فَرِيقًا} قطعة وجملة. {مِنْ أموالهم الناس بالإثم} أي بسبب ما يوجب إثمًا كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي متلبسين بالإثم والجار والمجرور على الأول: متعلق بتأكلوا وعلى الثاني: حال من فاعله وكذلك {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ومفعول العلم محذوف أي تعلمون أنكم مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلًا أن عبدان بن أشوع الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا} [آل عمران: 77] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنًا فلا يحل به الأخذ في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد، ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار» وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرًا وباطنًا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورًا كما روي أن رجلًا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك الشاهدان، وذهب فيمن ادعى حقًا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وإن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورًا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصًا في مدعي مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقًا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول ولها تفصيل في «أدب القاضي» فارجع إليه.

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة} أخرج ابن عساكر بسند ضعيف أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقًا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذًا قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناءًا على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه نزلة السؤال منه صلى الله عليه وسلم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم، والأهلة جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر، أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق وإليه ذهب الأصمعي أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير؛ ولهذا يقال: أهلّ واستهل ولا يقال هلّ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالًا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم عوده إلى مكان عليه وذلك الأمر المسؤول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول: يكون الجواب بقوله تعالى: {قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} مطابقًا مبينًا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصًا الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداءًا وقضاءًا ولو كان الهلال مدورًا كالشمس أو ملازمًا حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببًا عاديًا أو جعليًا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني: يكون من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهًا على أنه الأولى بحاله واختاره السكاكي وجماعة فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الأرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصًا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزمًا شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في «فتوحاته»، ومما ينادي على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقًا لما في نفس الأمر أن المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيجالجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسا يقع ما يقوله الأولون مبنيًا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرًا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق.
إذا قالت حذام فصدقوها ** فإن القول ما قالت حذام

وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى.
والمواقيت جمع ميقات صيغة آلة أي مايعرف به الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان على ما يفهم من كلام الرغب أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات، والوقت الزمان المقدور والمعين، وقرئ بإدغام نون {عن} في {الأهلة} بعد النقل والحذف، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة، وفيه بعد بل را يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج، وإنما احتيج إليه لكونه خاصًا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام، وذكر شهر رمضان وبحث الأهلة يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
«صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته».
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحًا، وعن عبد قلبه قلبًا، وعن أنثى نفسه نفسًا فإنه كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكن في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والأجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك، واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود؛ أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه يريد الله بكم اليسر والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته ولا يريد بكم العسر وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة ولتكلموا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع {ولعلكم تشكرون} [البقرة: 185] بالاستقامة {وإذا سألك عبادي}
[البقرة: 186] المختصون بي المنقطعون إليَّ عن معرفتي {فَإِنّي قَرِيبٌ} منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق {أُجِيبُ} من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله واستعداده {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} [البقرة: 186] بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودًا قتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أي لا صبر لكم عنها قتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن} أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء {باشروهن} بقدر الحاجة الضرورية {وابتغوا} بقوة هذه المباشرة {مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهمًا منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب»، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب {وَلاَ تَأْكُلُواْ} أموال معارفكم {بَيْنِكُمْ} بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء {لِتَأْكُلُواْ} الطائفة {مّنْ أَمْوَالِ} القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة} وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها {قُلْ هي مَوَاقِيتُ} للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم، وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهو بين جلال، وجمال، وخضوع، ودلال، نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم.
{وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} أخرج ابن جرير، والبخاري، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله {وَلَيْسَ البر} الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه ويعدون فعلهم ذلك برًا فبين لهم أنه ليس ببر {ولكن البر مَنِ اتقى} أي بر من اتقى المحارم والشهوات، أو لكن ذا البر أو البار من اتقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول قل فلابد من الجامع بينهما فأما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناءًا على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني: مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازًا واكتفاءًا بدلالة الجواب عليه، وإيذانًا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عن الأهلة فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للاستطراد حيث ذكر مواقيت الحج والمذكور أيضًا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى: وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ} والجامع بينهما أن الأول: قول لا ينبغي، والثاني: فعل لا ينبغي وقعًا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
{وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العدول برًا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على {وَلَيْسَ البر} إما لأنه في تأويل لا تأتوا البيوت من ظهورها أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير، وكثير بكسر باء البيوت حيثما وقع {واتقوا الله} في تغيير أحكامه كإتيان البيوت من أبوابها والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن من اتقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه؛ وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه.